فصل: تفسير الآية رقم (88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (71- 74):

{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)}
وقوله عزَّ وجل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قَسَمٌ، والواو تَقْتَضِيه، ويفسّره قولهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ، لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» وقرأ ابن عباس، وجماعَةٌ: {وإنْ مِنْهُمْ} بالهَاءِ على إرَادة الكُفَّار.
قال * ع *: ولا شغب في هذه القراءة، وقالت فِرْقَةٌ من الجمهور القارئين {منكم}. المعنى: قُلْ لهم يا محمَّدُ، فالخِطَاب ب {مِنْكُمْ} للكفرةِ، وتأويل هؤلاءِ أَيضاً سَهْلُ التناوُلِ.
وقال الأكثرُ: المخاطَبُ العَالَمُ كلّه، ولابد مِنْ وُرُودِ الجميع، ثم اختلفوا في في كَيْفِيَّةِ ورود المُؤْمِنِينَ، فقال ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وخالدُ بن مَعْدَانَ، وابنُ جُرَيْجٍ، وغيرُهم: هو ورودُ دخولٍ، لكنَّها لا تعدو عليهم، ثم يُخْرِجَهم اللّهُ عز وجل منها بعدَ مَعْرِفتهم حَقِيقَةَ ما نَجَوْا منه.
وروى جابرُ بنُ عبدِ اللّهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنه قال: «الوُرُودُ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الدُّخُولُ»، وقد أَشْفَقَ كَثِيرٌ من العلماء من تحقُّقِ الورودِ مع الجَهْلِ بالصَّدَرِ جعلنا اللّه تعالى من الناجين بفضله ورحمته-، وقالت فِرْقَة: بَلْ هُو ورودُ إشْرَافٍ، واطِّلاعٍ، وقُرْبٍ، كما تقول: وردتُ الماءَ؛ إذا جِئْتَه، وليس يلزم أَن تدخل فيه، قالوا: وحَسْبُ المُؤْمِن بهذا هَوْلاً؛ ومنه قولُه تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: الآية23].
وروت فرقة أثراً: أنّ الله تعالى يجعلُ النَّار يوم القيامة جامدةَ الأعلى كأنها إهالةٌ فيأتي الخلقُ كلُّهم؛ برُّهم وفاجرُهم فيقفون عليها ثم تسوخُ بأهلِها ويخرجُ المؤمنون الفائزون لم ينلهم ضرٌّ قالوا فهذا هو الورودُ.
قال المهدوي: وعن قتادةَ قال: يرد النَّاسُ جهنَّمَ وهي سَوْدَاءُ مظلِمةٌ، فأَما المؤْمنُونَ فأَضَاءَتْ لهم حَسَناتُهم، فَنَجَوْا منها، وأما الكفارُ فأوبقتهم سَيِّئَاتُهم، واحتبسوا بذنوبهم. انتهى.
وروت حَفْصَةُ- رضي اللّه عنها- أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَالحُدَيْبِيَةِ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّه، وأَيْنَ قَوْلُ اللّهِ تعالى: {وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا} فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: فَمَهْ، {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}» ورجح الزجاجُ هذا القَوْلَ؛ بقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101].
* ت *: وحديثُ حفصةَ هذا أَخرجهُ مُسْلِم، وفيه: أَفلم تَسْمَعِيهِ يقولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}.
وروى ابنُ المبارك في رُقائقه أنه لما نزلت هذه الآية {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى: فَجَاءَتِ امرأته، فَبَكَتْ، وَجَاءَتْ الخَادِمُ فَبَكَتْ، وجَاءَ أَهْلُ البَيْبِ فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عَبْرَتُهُ، قَالَ: يَا أَهْلاَهُ، مَا يُبْكِيكُمْ، قَالُوا: لاَ نَدْرِي، وَلَكِنْ رَأَيْنَاكَ بَكَيْتَ فَبَكَيْنَا، فَقَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ على رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم يُنْبِئُنِي فِيهَا رَبِّي أَنِي وَارِدُ النَّارَ، وَلَمْ يُنْبِئْنِي أَنِّي صَادِرٌ عَنْهَا، فَذَلِكَ الَّذِي أبْكَانِي.
انتهى.
وَقال ابنُ مَسْعُودٍ: ورودُهُمْ: هو جَوَازُهُمْ على الصِّراطِ، وذلك أَنَّ الحديث الصَّحيحَ تضمن أَنَّ الصراط مَضْرُوبٌ على مَتْنِ جهنم.
والحَتْمُ: الأَمْر المنفدُ المجْزُوم، و{الذين اتقوا}: معناه اتَّقَوْا الكُفْر {ونَذَرُ} دالةٌ على أَنهم كَانُوا فيها.
قال أَبُو عُمَر بنُ عَبْدِ البَرِّ في التمهيد بعد أَن ذكر روَاية جابِر، وابنِ مَسْعُودٍ في الوُرُودِ، وروي عن كَعْبٍ أَنه تَلاَ؟ {وإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا} فقال: أَتَدْرُونَ مَا وُرُودُهَا؟ إنه يُجَاءُ بجهنَّم فتُمْسكُ للناس كأَنها متْن إهَالَة: يعني: الوَدَك الذي يجمد على القِدْر من المرقَةِ، حَتَّى إذا استقرت عليها أَقدَام الخَلائِق: بَرّهم وفَجارُهم، نَادَى مُنَادٍ: أَنْ خُذِي أَصْحَابِك، وذَرِي أَصْحَابِي، فيُخْسَفُ بكلِّ وليٍّ لها، فَلَهِيَ أَعلَمُ بهم مِنَ الوَالِدَة بولَدِهَا، وينجو المُؤْمِنُونَ نَدِيَّة ثيابهم.
وروي هذا المعنى عن أَبي نَضْرَةَ، وزاد: وهو معنى قولِه تَعَالَى: {فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ} [يس: 66]. انتهى.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً...} الآية، هذا افتخارٌ من كفار قريش؛ وأَنه إِنما أَنعم اللّه عليهم؛ لأَجْلِ أَنهم على الحقِّ بزعمهم. والنَّدِيّ، والنَّادِي: المجْلِسُ، ثم رد اللّه تعالى حُجَّتَهم وحقَّر أَمْرهم؛ فقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أثاثا وَرِءْياً} أيْ: فلم يُغْن ذلك عنهم شَيْئاً، والأَثَاث: المال بالعين، والعَرْض والحيوان.
وقرأَ نافِعٌ وغيرُه: {ورءيا} بهمزةٍ بعدها ياءٌ؛ من رُؤْية العَيْنِ.
قال البخاري: ورءياً: منظراً.
وقرأ نافعٌ أيضاً، وأَهل المدينة: {وَرِيّاً} بياء مشددة، فقيل: هي بمعنى القِرَاءةِ الأُولى، وقيل: هي بمعنى الرِّيِّ في السُّقْيَا؛ إذْ أَكْثر النعمة مِنَ الريِّ والمطر.
وقرأ ابنُ جُبَيْر، وابنُ عباسٍ، ويزيدُ البريري: {وَزِيّاً} بالزاي المعجمة؛ بمعنى: المَلْبَسَ.

.تفسير الآيات (75- 76):

{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)}
قوله سبحانه: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً}، فيحتمل أَنْ يكون بمعنى الدُّعَاءِ والاِبْتِهَال؛ كأَنه يقولُ: الأَضَلّ مِنّا ومنكم مد اللّه له، أَيْ: أملى له؛ حَتَّى يؤول ذلك إلَى عذابِه، ويحتمل أَنْ يكون بمعنى الخبر؛ أنه سبحانه هذه عَادَتُه: الإمْلاَءُ للضَّالِينْ: {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب}، أَيْ: في الدنيا بنصر اللّه لِلْمُؤْمِنينَ عليهم، {وَإِمَّا الساعة} فيصيرون إلى النارِ، والجندُ النَّاصِرُون: القَائِمُون بأَمْر الحرب، و{شَرٌّ مَّكَاناً} بإزاء قَوْلهِم {خَيْرٌ مَّقَاماً} و{أَضْعَفُ جُنداً} بإزاء قولهم: {أَحْسَنُ نَدِيّاً} ولما ذكر سبحانه ضَلاَلَةَ الكَفَرةِ وافتخارَهُم بنِعَم الدنيا عَقَّبَ ذلك بذكر نِعْمة اللّه على المؤْمِنينَ في أَنه يزيدهم هُدَىً في الارْتِبَاط بالأَعمالِ الصَّالحة، والمعرفة بالدَّلائل الوَاضِحَة، وقد تقدَّم تَفْسِيرُ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «وأنها: سُبْحَانَ اللّهِ، والحمُدْ لِلَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللّهُ واللّهُ أَكْبَرُ» وقد قال صلى الله عليه وسلم لأَبِي الدَّرْدَاءِ: «خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ، وَبَيْنَهُنَّ؛ فَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» وعنه صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: «خُذُوا جُنَّتِكُم، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَمِنْ عَدُوٍّ حَضَرَ؟ قَالَ: مِنَ النَّارِ، قَالُوا: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللّهِ، والحمُدْ لِلَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللّهُ واللّهُ أَكْبَرُ، وَهُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ». وكَان أَبو الدرداء يقولُ إذَا ذكر هذا الحدِيثَ: لأُهَلِّلنّ، ولأُكَبِّرنَّ اللّهَ، ولأُسَبِّحَنَّهُ حَتَّى إذَا رَآنِي الجَاهِلُ ظنِّنِي مَجْنُوناً.
* ت *: ولو ذكرنا ما ورد مِنْ صَحِيح الأَحادِيث في هذا الباب، لخرجنا بالإطالة عن مقصُودِ الكتاب.

.تفسير الآيات (77- 79):

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)}
وقوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بآياتنا} هو العَاصِي بْنِ وَائِل السَّهْمِيُّ؛ قاله جمهورُ المفسرين، وكان خبره أَنْ خَبَّابَ بْنَ الأَرَتّ كان قَيْناً في الجاهلية، فعمل له عملاً، واجتمع له عنده دَيْن؛ فجاءه يَتَقاضَاهُ، فقال له العاصِي: لا أقضيك حتَّى تكفُرَ بمحمدٍ، فقال خَبَّابٌ: لا أكفرُ بمحمّدٍ حتى يُميتَكَ اللّهُ، ثم يبعثك؛ فقال العاصي: أَوَ مبعُوثٌ أنا بعد الموت؟! فقال: نعم، فقال: فإنه إذَا كان ذلك، فسيكُونُ لِي مَالٌ، ووَلَدٌ، وعند ذلك أَقضيكَ دَيْنَكَ؛ فنزلت الآيةُ في ذلك.
وقال الحسنُ: نزلتْ في الْوَلِيدِ بنِ المُغِيرة.
قال * ع *: وقد كانت لِلْوَلِيدِ أَيْضاً، أَقْوَالٌ تشبه هذا الغرض.
* ت *: إلاَّ أَنَّ المسند الصحيح في البخاري هو الأَول.
وقولُه: {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} معناه بالأَيْمان، والأَعْمال الصالحات.
و{كَلاَّ} زَجْرٌ، وردٌّ، وهذا المعنى لاَزِمٌ ل {كَلاَّ}، ثم أَخبر سبحانه: أَن قولَ هذا الكافر سَيُكْتب على معنى حِفْظه عليه، ومعاقبته وبه ومدّ العذاب؛ هو إطالتُه وتَعْظِيمه.

.تفسير الآيات (80- 83):

{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)}
وقوله سبحانه: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أَيْ: هذه الأَشياء التي سمّى أنه يُؤْتَاها في الآخرة، يرث اللّهُ ماله منها في الدنيا؛ بإهلاكه، وتَرْكِه لها، فالوراثة مستعارةٌ.
وقال النحاسُ: {نَرِثُهُ مَا يَقُولُ} معناه: نحفظه عليه؛ لنعاقبه به؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» أي: حفظة ما قالوا.
قال * ع *: فكأَنَّ هذا المجرمُ يورث هذه المقالة.
وقوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} معناه: يجدونهم خِلاَف ما كانوا أمّلُوه في مَعْبُودَاتِهم؛ فَيَؤولُ ذلك بهم إلى ذِلَّة، وضِدِّ ما أملوه من العِزّ، وغيره، وهذه صفة عامة.
و{تَؤُزُّهُمْ} معناهُ: تُقْلِقُهم وتحرِّكُهم إلى الكفر والضلالِ.
قال قتادةُ: تزعِجُهم إزْعاجاً، وقال ابنُ زيد: تُشْلِيهم إشْلاَءً، ومنه: أَزِيزُ القِدر، وهو غَلَيَانُه وحَرَكَتُه؛ ومنه الحديثُ: «أَتَيْتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وهُو يَبْكِي، ولِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كأَزِيزِ المِرْجَلِ». * ت *: هذا الحديثُ خرَّجه مسلمٌ، وأَبُو دَاوُدَ عن مُطَرِّف عن أَبِيه.
وقال العِرَاقِيّ: {تَؤُزُّهُمْ} أيْ: تدفعهم: انتهى.

.تفسير الآيات (84- 87):

{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)}
وقوله سبحانه: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أَيْ: لاَ تَسْتَبطِئ عَذَابهم.
وقوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً}.
قال * ع *: وظاهر هذه الوفادة أَنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوضُ إلَى الجنَّة، وكذلك سوقُ المجرمين إنما هو لدخُولِ النَّارِ.
و{وَفْداً} قال المفسرون: معناه رُكْباناً، وهي عادةُ الوفود؛ لأَنهم سَرَاةُ الناسِ، وأَحسنهم شَكْلاً، وإنما شَبَّههم بالوفْدِ هيئة، وكرامة.
وروي عن عَلِيِّ- رضي اللّه عنه- أَنهم يَجِيئُونَ رُكْباناً على النُّوقِ المحلاَّة بحِلْيةِ الجنَّة: خطمُها من يَاقُوتٍ، وزَبَرْجَدٍ، ونحو هذا.
وروى عمرو بْنُ قيس المَلاَّئِي: أنهم يركبون على تماثيل مِنْ أَعمالهم الصَّالِحة، وهي في غَاية الحُسْن.
وروي: أَنه يركب كُلُّ واحدٍ منهم ما أَحبَّ؛ فمنهم: مَنْ يركبُ الإبلَ، ومنهم: مَنْ يركب الخَيْلَ، ومنهم مَنْ يركب السُّفُنَ، فتجيء عَائِمةٌ بهم، وقد ورد في الضَّحَايَا: أَنها مَطَايَاكُمْ إلَى الجَنَّةِ؛ وأَكْثَر هذه فيها ضَعْفٌ مِنْ جهة الإِسْناد، والسَّوْقُ: يتضمن هَوَاناً، والورودُ: العطاش؛ قاله ابن عباس وأَبُو هريرة، والحَسَنُ.
واختُلِفَ في الضَّمِير في قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ} فقالت فِرْقةٌ: هو عائد على {المجرمين} أي: لا يملكون أَنْ يَشْفَعَ لهم؛ وعلى هذا فالاِسْتِثْنَاءُ مُنقَطِع، أيْ: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يشفعُ له.
والعهدُ عَلَى هذا الأَيْمان، وقال ابنُ عباسٍ: العهدُ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللّهُ، وفي الحدِيث: يقول اللّهُ تعالى يَوْمَ القِيَامة: «مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عَهْدٌ، فَلْيَقُمْ». قال * ع *: ويحتمل: أَنْ يكون المجرمون يعمُّ الكَفَرَةَ والعُصَاة، أيْ: إلاَّ من اتخذ عند الرحمن عَهْداً من عُصَاةِ المؤْمِنِينَ؛ فإنه يشفع لهم، ويكون الاِسْتِثْناء مُتَّصِلاً.
وقالت فِرْقَةٌ: الضميرُ في {لاَّ يَمْلِكُونَ} للمتقين.
وقوله: {إِلاَّ مَنِ اتخذ...} الآية أيْ: إلاَّ من كان له عملٌ صَالِحٌ مبرورٌ؛ فيشفَعُ فيُشَفَّع، وتحتملُ الآية أَنْ يُرادَ ب مَنْ النبي صلى الله عليه وسلم وبالشَّفَاعَة الخاصَّة له العامة في أَهل الموقِفِ، ويكون الضميرُ في {لاَّ يَمْلِكُونَ} لجميع أَهْل الموقف؛ أَلا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الأَنبياء يتدافعون الشفاعةَ إذْ ذَاكَ، حَتَّى تصيرَ إليه صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآية رقم (88):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)}
وقوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً}.
قال البَاجِيُّ في سنن الصالحين له رُوِيَ عن ابن مَسْعُودٍ، أَنه قال: إنَّ الجبل ليقولُ للجبل: يا فلانُ، هل مَرَّ بِكَ اليومَ ذَاكِرٌ لله تعالى؟ فإنْ قال: نعم، سُرَّ بِهِ، ثُمَّ قرأ عبدُ اللّهِ: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} إلى قولهِ: {وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} قال: أَتروْنَها تسمع الزُّورَ، ولا تسْمَعُ الخيْرَ. انتهى.
وهكذا رواه ابنُ المُبَارك في رقائقه وما ذكره ابنُ مسعودٍ لا يقالُ من جهة الرأْيِ، وقد رُوِيَ عن أَنسٍ، وغيرهِ نحوه.
قال الباجي بِإثْرِ الكَلاَمِ المتقدم: وروى جعفرُ بْنُ زَيْدٍ، عن أَنَسِ بن مَالِكٍ: أَنه قالَ: مَا مِنْ صَبَاحٍ وَلاَ رَوَاحٍ إلاَّ وتُنَادِي بِقَاعُ الأَرض بعضها بعضاً: أَيْ جَارَةُ، هَلْ مَرَّ بِكِ اليَوْمَ عَبْدٌ يُصَلِّي أَو يَذْكُر اللّه؟ فَمِن قائلةٍ: لاَ، ومِنْ قَائِلَةٍ: نَعَمْ، فإذا قَالَتْ: نَعَمْ، رأت لها فَضْلاً بذلك. انتهى.

.تفسير الآيات (89- 96):

{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)}
وقوله سبحانه: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} الآية، الإدُّ: الأَمرُ الشنِيعُ الصَّعْبُ.
* ت *: وقال العِرَاقِي: {إدّاً}، أَيْ: عَظِيماً، انتهى.
والانْفِطَارُ: الاِنْشِقَاقُ، والهَدُّ: الاِنْهِدَامُ، قال محمدُ بنُ كَعْبٍ: كاد أَعداءُ اللّه أَنْ يُقِيمُوا علينا السَّاعَةَ.
وقوله: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات...} الآية، إنْ نافيةٌ بمعنى مَا.
وقوله: {فَرْدَاً} يتضمنُ عَدَمَ النصير، والحَوْلِ والقُوّةِ، أيْ: لا مُجِير له مما يُريد اللّهُ به.
وعبارة الثَّعْلَبِيّ: {فرداً} أيْ: وحيداً بعمله، ليس معه من الدنيا شيءٌ. اهـ.
* ت *: وهذه الآيةُ تُنظر إلى قوله تعالى {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى...} الآية [الأنعام: 94].
وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} ذهب أكثرُ المفسرين إلى: أن هذا الوُدّ هو القبول الذي يضعه اللّهُ لمن يحب مِنْ عباده؛ حَسْبَما في الحديث الصَّحيح المأثور، وقال عُثْمان بن عَفّان- رضي اللّه عنه-: أَنها بمنزلة قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم «من أسَرَّ سَرِيرةً ألْبَسُهُ اللّهُ رِدَاءَها». * ت *: والحديثُ المتقدِّمُ المُشَارُ إليه أَصلُهُ في الموطإ ولفظه: مالك، عن سُهَيْل بن أبي صالح السَّمان، عن أَبيه، عن أَبِي هريرَةَ؛ أَنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا أَحَبَّ اللّهُ العَبْدَ قَالَ لِجِبْريلُ، يا جبريل قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي في أَهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللّهَ أَحَبَّ فُلاَناً، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَضَعُ لَهُ القَبُولَ فِي الأَرْضِ». وَإذَا أَبْغَضَ الْعَبْدَ، قَالَ مالكٌ: لا أَحْسبُه إلاَّ قال في البُغْضِ مثلَ ذلك.
قال أَبُو عُمرَ بن عبد البرِّ في التمهيد، وممن رَوَى هذا الحدِيثَ عن سُهَيْل، بإسناده هذا فذكر البُغْضَ من غير شَكٍّ معمرُ وعبدُ العزيز بن المختار، وحماد بنُ سَلَمة، قالوا في آخره: وإذَا أَبْغَض بمثل ذلك، ولم يشكوا.
قال أَبو عُمَر: وقد قال المفسِّرُون في قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً}: يُحِبُّهم ويُحبِّبُهم إلى الناس، وقاله مُجَاهِدٌ، وابنُ عباس، ثم أَسند أَبو عُمَرَ عن كْعبٍ أَنه قال: واللّهِ مَا اسْتَقَر لعبدٍ ثَنَاءٌ في أَهْل الدُّنْيَا حتى يَسْتَقِرَّ له في أَهْل السماء.
قال كعبٌ: وقرأتُ في التوراة أنه لم تكن مَحَبَّةٌ لأَحَدٍ من أَهْل الأَرْضِ إلاَّ كان بَدّأَها مِنَ اللّه عز وجل ينزلها على أَهْل السماء، ثم ينزلها على أهْل الأرض، ثم قرأت القرآن، فوجدتُ فيهِ: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} وأَسْنَد أَبو عمر، عن قتادة قال: قال هَرِمَ بْنُ حَيَّان: ما أَقْبَلَ عبدٌ بقلبه إلى اللّهِ تعالى إلاَّ أَقبل اللّهُ بقلوب أَهْل الإيمان عليه حَتَّى يرزُقَه مودَّتَهُمْ ورحْمَتَهُمْ. انتهى.
قال ابنُ المُبَارَك في رقائقه: أَخبرنا سُلَيْمَان بُنِ المُغِيرة، عن ثابت قال: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، مَنْ أَهْل الجَنَّة؟ قال: مَنْ لاَ يَمُوتُ حَتَّى يَمْلأَ اللّهُ سَمْعَهُ مِمَّا يُحِبُّ قال: فقيل: يا رسول اللّهِ، مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قال: مَنْ لاَ يَمُوتُ حتى يَمْلأَ اللّهُ سَمْعَهُ مِمَّا يَكْرَهُ» انتهى.
قال * ع *: وفي حَدِيثِ أبي هريرة قال: قَالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ إلاَّ وَلَهُ في السَّمَاء صِيتٌ، فَإنْ كَانَ حَسَناً، وُضِعَ فِي الأَرْضِ حَسَناً، وإنْ كَانَ سَيِّئاً وُضِعَ في الأَرْضِ سَيِّئاً». * ت *: وهذا الحديثُ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ في كتاب الزهد.